في مشهد يعيد استحضار لحظة فارقة في التاريخ المصري والعربي، فجّر تسجيل صوتي نادر للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي جدلًا واسعًا.
وأعاد التسجيل فتح النقاش بشأن طبيعة سياسات عبد الناصر في سنواته الأخيرة، خصوصًا إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، والموقف المصري من قضايا الحشد العسكري والحلول السلمية.
التسجيل، الذي يعود إلى أغسطس 1970، يوثق حديثًا مطولًا بشأن ضرورة الواقعية السياسية، وانتقادًا ضمنيًا لدعوات الحشد الثوري، في وقت كانت فيه القاهرة قد قبلت رسميًا بمبادرة روجرز كغطاء لبناء قدرات الدفاع الجوي.
وبينما اعتبرت أسرة عبد الناصر أن التسجيل "جزء من أرشيفه المتاح"، انقسم المحللون بين من رأى فيه دلالة على "تطور سياسي ناضج" ومن اعتبره "محاولة لتزييف موقف عبد الناصر القتالي".
"عبد الناصر لم يساوم.. ومات وهو يبني للعبور"
دافع الكاتب الصحفي عبد الحليم قنديل، في حديثه إلى برنامج "ستوديو وان مع فضيلة"، بشدة عن الموقف التاريخي لعبد الناصر، محذرًا من محاولات "اجتزاء السياق"، مؤكدًا أن "اجتزاء الحقيقة كإنكارها وخيانتها".
بحسب قنديل، قبول عبد الناصر بمبادرة روجرز لم يكن تنازلًا بقدر ما كان مناورة سياسية لتمكين بناء حائط الصواريخ الذي وفر الغطاء اللازم لأي عمل عسكري لاستعادة سيناء.
وأكد أن التسجيل الصوتي يجب فهمه ضمن اللحظة التاريخية التي "كانت مصر تستعد فيها للحرب وليس للاستسلام".
واستعرض قنديل معطيات اقتصادية وعسكرية مهمة، قائلًا إن عبد الناصر، الذي أقر بمسؤوليته الكاملة عن هزيمة 1967، عمل على إعادة بناء الجيش والاقتصاد. وصلت معدلات التنمية في عهده إلى 6 بالمئة سنويًا، وكان عام 1969 ذروة الانتعاش الاقتصادي المصري منذ عقود".
كما لفت إلى أن عبد الناصر لم يتخلَّ عن مشروع التحرير، مستشهدًا بخطط بناء حائط الصواريخ وخطط العبور التي وُضعت قبل وفاته، معتبرًا أن "لو كان عبد الناصر عاش لما شهدنا تدهور الأوضاع العربية إلى ما آلت إليه بعد اتفاقيات السلام المنفردة".
"عبد الناصر.. من الحلم القومي إلى الواقعية الصارمة"
أما عماد جاد، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فقد قدم قراءة مختلفة لكنها متقاطعة مع رؤية قنديل من زاوية أخرى، إذ أشار إلى أن عبد الناصر بعد 1967 "كان شخصًا مختلفًا كليًا عن الزعيم الحالم قبلها".
وشرح جاد قائلا: "عبد الناصر قبل النكسة كان قائدًا قوميًّا طموحًا يسعى لتوحيد العالم العربي، لكنه بعد الهزيمة أصبح رئيسًا مصريًا براجماتيًا يتعامل مع الواقع بإدراك أعمق لحدوده".
وأضاف جاد أن دخول عبد الناصر حرب اليمن وخسارته عشرات الآلاف من الجنود كان "أول جرس إنذار"، تبعه سقوط كارثي في 1967 نتيجة الفشل الداخلي، خاصة بسبب دور عبد الحكيم عامر ومحاولة السيطرة على الجيش بعيدًا عن الرقابة السياسية الفعالة.
وفي تحليله لمضمون التسجيل مع القذافي، قال جاد: "الحديث يفضح ازدواجية الراديكاليين الذين كانوا ينتقدون عبد الناصر وهم يزايدون عليه... عبد الناصر كان واضحًا حين قال لهم ببساطة: من أراد أن يحارب فليتفضل، لكنه هو نفسه كان يقاتل بوسائله الواقعية لبناء القوة لا بالشعارات".
وأكد جاد أن نقل حائط الصواريخ المصري قرب قناة السويس قبيل وقف إطلاق النار، في خرق محسوب لمبادرة روجرز، كان "خطوة ذكية مهدت لما عرف لاحقًا بثغرة النصر في حرب 1973".
السياق المصري.. وقيمة الرسالة اليوم
ما بين تحليلات قنديل التي تؤكد استمرار مشروع المقاومة، وقراءة جاد التي ترصد التحول إلى الواقعية السياسية، تتضح ملامح المشهد: مصر عبد الناصر، حتى في لحظات الانكسار، كانت تتجه نحو بناء قوة قادرة على التغيير، بعيدًا عن ضجيج المزايدات الأيديولوجية.
التسجيل الصوتي، رغم الجدل حوله، يكشف عن عبد الناصر الذي عرف أن الشعارات لا تحرر أرضًا، وأن بناء القوة الوطنية هو الطريق الوحيد الممكن. ولعل ما قاله عبد الناصر نفسه في التسجيل، حين ألمح إلى أن السلام لا يأتي من "الطموحات غير الواقعية"، يجسد التحول العميق الذي قادته مصر آنذاك نحو مفهوم دولة القوة القادرة، لا فقط القومية الحالمة.
وفي عالم عربي ما زال يعاني من أزمات مشابهة، تبدو الرسائل المستخلصة من عبد الناصر أكثر راهنية مما قد يتصور البعض.
0 تعليق