وفي ظل تنامي الشكوك حيال مستقبل السياسة المالية والنقدية في واشنطن، تسارعت وتيرة التخارج من الأصول المقوّمة بالدولار، ما أدى إلى هبوط مؤشر العملة الخضراء بأكثر من 9 بالمئة منذ بداية العام، وسط توقعات بمزيد من الانخفاض.
ووفقاً لاستطلاع بنك أوف أميركا، فإن 61 بالمئة من مديري الصناديق العالمية يتوقعون استمرار تراجع الدولار خلال الاثني عشر شهراً المقبلة، وهي النسبة الأعلى من التشاؤم تجاه العملة الأميركية منذ نحو عقدين، ما يضع البنوك المركزية أمام معادلة دقيقة بين حماية استقرار الأسعار والحفاظ على تنافسية صادراتها.
في هذا السياق، يشير تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية إلى أن "الخروج من الأصول الأميركية يعكس أزمة ثقة أوسع نطاقا، مع احتمال حدوث تداعيات غير مباشرة مثل ارتفاع التضخم المستورد مع ضعف الدولار".
ومع بعض الاستثناءات مثل البنك الوطني السويسري، فإن ضعف الدولار الأميركي يمثل ارتياحاً للحكومات والبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم، وفقاً لما نقلته الشبكة عن محللين.
كبير محللي العملات في فوركس لايف، آدم باتون، قال: ستكون معظم البنوك المركزية سعيدة بانخفاض قيمة الدولار بنسبة تتراوح بين 10 و20 بالمئة.. وأضاف أن قوة الدولار تُمثل مشكلة مستمرة منذ سنوات، وتُشكل صعوبة للدول التي تربط عملاتها بالدولار بشكل صارم أو مرن.
- نظراً لكون العديد من دول الأسواق الناشئة تعاني من ديون ضخمة مقومة بالدولار، فإن ضعف الدولار يُخفّض عبء الدين الحقيقي.
- إضافةً إلى ذلك، فإن ضعف الدولار وقوة العملة المحلية يُخفّضان الواردات نسبياً، مما يُخفّض التضخم، وبالتالي يُتيح للبنوك المركزية مجالاً لخفض أسعار الفائدة لتعزيز النمو.
بحسب باتون فإن عمليات بيع الدولار الأميركي الأخيرة توفر "مساحة أكبر للتنفس" للبنوك المركزية لخفض أسعار الفائدة.
كما نقل التقرير عن الرئيس المشارك للاستثمار في بنك في بي سنغافورة وآسيا، توماس روبف، قوله إنه في حين أن العملة المحلية الأقوى قد تساعد في ترويض التضخم من خلال الواردات الأرخص، إلا أنها تعقد القدرة التنافسية للصادرات خاصة في ظل التعريفات الجمركية الأميركية المتجددة حيث تتعرض آسيا باعتبارها أكبر منتج للسلع في العالم.
وقال رئيس أبحاث الاقتصاد الكلي في مونيكس أوروبا، نك ريس، إن خفض قيمة العملة من المرجح أن يكون بمثابة اعتبار أكثر نشاطا في الأسواق الناشئة، وخاصة في آسيا.
ولكن سوف تحتاج هذه الأسواق الناشئة والبنوك المركزية الآسيوية إلى السير على خط رفيع لتجنب هروب رؤوس الأموال وغير ذلك من المخاطر.
كما قال كبير استراتيجيي الأسواق المالية في إكسنس، وائل مكارم:
- "تواجه الأسواق الناشئة مخاطر التضخم المرتفع والديون وهروب رأس المال، مما يجعل خفض قيمة العملة أمراً خطيراً".
- الإدارة الأميركية قد تنظر إلى خفض قيمة العملة على أنه إجراء تجاري قد يستدعي ردود فعل انتقامية.
ووفق مدير الشؤون الاقتصادية في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، أليكس موسكاتيلي، فإن اقتصادات الأسواق الناشئة قد تتردد في خفض أسعار الفائدة، إذ قد يؤثر ذلك على عبء ديون الأسر والشركات المحلية التي اقترضت بالدولار الأميركي، موضحاً أن ضعف العملة المحلية قد يؤدي أيضاً إلى تدفقات رأس المال إلى الخارج استجابةً لانخفاض فروق أسعار الفائدة مع الولايات المتحدة.
على سبيل المثال، لا يتوقع موسكاتيلي أن يقوم البنك المركزي الإندونيسي بخفض أسعار الفائدة كثيراً نظراً لتقلبات العملة الأخيرة، لكنه أشار إلى أن كوريا والهند ربما يكون لديهما مجال لخفض أسعار الفائدة.
أثر السياسات الأميركية
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق ، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- "نتعامل اليوم مع واقع معقد يرتبط بضعف الدولار الأميركي، ويظهر ذلك جلياً من خلال مؤشر الدولار الذي يلامس أدنى مستوياته منذ ثلاث سنوات".
- "هذا الضعف يعكس حالة من الضبابية التي تسود السياسة الأميركية، وخصوصاً نتيجة التوجهات الأخيرة للإدارة الأميركية بقيادة الرئيس ترامب، والتي تتسم أحياناً بالتسرع في اتخاذ القرارات".
- "هذا الأمر خلق حالة من القلق لدى المستثمرين، ما دفعهم للخروج من الدولار والتوجه نحو الملاذات الآمنة، وعلى رأسها الفرنك السويسري والين الياباني، كما شهدنا مؤخرًا ارتفاعًا في قيمة اليورو".
وأدى انخفاض الدولار إلى ارتفاع قيمة العملات الأخرى مقابله، وخاصة الملاذات الآمنة مثل الين الياباني والفرنك السويسري وكذلك اليورو.
- منذ بداية العام، ارتفع الين الياباني بأكثر من 10 بالمئة مقابل الدولار الأميركي، في حين ارتفع الفرنك السويسري واليورو بنحو 11 بالمئة، وفقا لبيانات بورصة لندن.
- إلى جانب الملاذات الآمنة، ارتفعت قيمة العملات الأخرى مقابل الدولار هذا العام، بما في ذلك البيزو المكسيكي، الذي ارتفع بنسبة 5.5 بالمئة مقابل الدولار، والدولار الكندي الذي ارتفع بأكثر من 4 بالمئة. وارتفع الزلوتي البولندي بأكثر من 9 بالمئة، بينما ارتفع الروبل الروسي بأكثر من 22 بالمئة مقابل الدولار الأمريكي.
- مع ذلك، انخفضت قيمة بعض عملات الأسواق الناشئة على الرغم من ضعف الدولار.
- انخفض الدونغ الفيتنامي والروبية الإندونيسية إلى أدنى مستوياتهما القياسية مقابل الدولار الأميركي في وقت سابق من هذا الشهر.
- كما سجلت الليرة التركية أدنى مستوى لها على الإطلاق الأسبوع الماضي.
- أما اليوان الصيني، فقد سجل أدنى مستوى له مقابل الدولار قبل أسبوعين تقريبًا، لكنه ارتفع منذ ذلك الحين.
ويوضح يرق أنه إذا استمرت هذه الاتجاهات، فإن البنوك المركزية حول العالم ستواجه معضلة حقيقية، مردفاً: "نعلم أن البنك المركزي السويسري، في فترات الأزمات، يتدخل عند تزايد الطلب على الفرنك، الأمر ذاته ينطبق على الين الياباني، خاصة وأن هذه الاقتصادات تعتمد بشكل كبير على الصادرات، مما يدفعها أحياناً إلى اتخاذ إجراءات تيسيرية لتخفيف قيمة العملة وتحفيز الاقتصاد".
ويتابع: "أما بالنسبة لليورو والجنيه الأسترليني، فإننا نرى أن البنك المركزي الأوروبي يعتبر مستويات 1.20 لليورو مقبولة نسبياً، ولكن أي تجاوز لتلك المستويات قد يدفعه للتدخل.. كل ذلك مرتبط بتداعيات الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب، وسنراقب خلال الأقل من 90 يوماً المقبلة مدى تجاوب الأسواق مع هذه التطورات، بالإضافة إلى نتائج الاتفاقيات التي قد تُبرم مع البنوك المركزية للدول الأخرى".
انتهز البنك المركزي الأوروبي فرصة انخفاض التضخم لخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس أخرى في اجتماعه في أبريل. وصرح البنك المركزي الأوروبي يوم الخميس بأن "معظم مقاييس التضخم الأساسي تشير إلى أن التضخم سيستقر عند مستوى 2 بالمئة المستهدف من قبل مجلس الإدارة على المدى المتوسط بشكل مستدام".
ويؤكد يرق أن الأسواق في مرحلة من الحذر والترقب، خاصة وأن أي تأثير حقيقي لهذه السياسات سيظهر على معدلات التضخم في الولايات المتحدة وخارجها.. "وإذا ما حصل ذلك، ستكون البنوك المركزية أمام تحديات كبيرة مرتبطة بما يسمى بالركود التضخمي، حيث نواجه في آنٍ واحد ارتفاعاً في التضخم وتباطؤًا في النمو الاقتصادي، مما يجعل دور البنوك المركزية محوريًا في كيفية التصرف".
ويختتم يرق حديثه بالتأكيد على أنه في ظل استمرار عدم اليقين، من الرسوم الجمركية إلى الأحاديث حول نية ترامب إقالة جيروم باول، ثم تراجعه عن ذلك، فإن الدولار يشهد ضغوطًا متزايدة، رغم أنه ما زال يُعتبر مؤقتًا ملاذًا آمنًا لبعض المستثمرين."
خفض الفائدة
ويشير تقرير لـ "بلومبيرغ" إلى أنه من المتوقع أن تظل البنوك المركزية العالمية على أهبة الاستعداد لخفض أسعار الفائدة في الأشهر المقبلة لحماية اقتصاداتها من الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ووفق التقرير، فرغم التقلبات، أدت تعريفات ترامب الجمركية حتى الآن إلى تراجع آفاق النمو في كل مكان، وزادت من خطر ركود اقتصادي أميركي. وقد توقعت منظمة التجارة العالمية بالفعل تراجعًا في التجارة الدولية هذا العام.
على هذه الخلفية، ترى بلومبرغ إيكونوميكس أن معظم المسؤولين النقديين مستعدون لخفض تكاليف الاقتراض، وإن بحذر، للتخفيف من وطأة التداعيات السلبية. ومن المتوقع أن ينخفض مؤشرها المركب لأسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة بنحو نصف نقطة مئوية قبل نهاية العام.
ويضيف التقرير: إن الحجة التي تستدعي التعامل بحذر مع تخفيف السياسة النقدية تتمثل في الحاجة إلى الحماية من ضغوط التضخم، سواء المستمرة منذ ارتفاع أسعار المستهلك، أو التي تلوح في الأفق منذ الأزمة الحالية.
أثر السياسات الأميركية
وإلى ذلك، يشير خبير أسواق المال، محمد سعيد، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن التراجع الذي يشهده الدولار الأميركي خلال العام الجاري 2025 يُعد حدثاً ذا أهمية بالغة على مستوى العالم، موضحاً أن الدولار لم يعد يُعتبر مجازاً عملة أميركية فحسب، بل هو العملة الأولى في العالم، ما يجعل تأثيراته عالمية.
ويشير إلى أن الدولار يمر بفترة ضعف شديدة خلال هذا العام، مع تراجعاته إلى أدنى مستوياته في ثلاث سنوات. وعزا سعيد هذا التراجع إلى التوترات التجارية التي يقودها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تفضي إلى مشهد اقتصادي عالمي معقد، خاصة في ظل ردود أفعال الشركاء التجاريين الرئيسيين، وعلى رأسهم الصين.
ويضيف: السبب الأبرز في تراجع الثقة بالدولار هو ما يتعلق بمحاولات التدخل المتكررة من جانب الرئيس ترامب في السياسة النقدية الأميركية، وتصريحاته المثيرة للجدل بشأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وتهديده الصريح بعزل رئيسه جيروم باول، مما أضر بثقة المستثمرين في استقرار العملة الأميركية.
ويوضح أن ردود أفعال البنوك المركزية حول العالم تجاه تراجع العملة الأولى عالمياً تأتي متفاوتة تبعاً لاختلاف الأوضاع الاقتصادية والسياسية، موضحاً أن العديد من البنوك المركزية، بل وغالبيتها، كانت قد بدأت بالفعل قبل موجة التراجع الأخيرة في اتباع استراتيجية تقليل الاعتماد على الدولار، من خلال تنويع احتياطاتها واللجوء إلى الذهب، واليورو، وحتى اليوان الصيني، وكذلك العملات الرقمية في بعض الأحيام، ما أدى إلى انخفاض حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية من 65 إلى 58 بالمئة خلال السنوات القليلة الماضية.
ويضيف: بعض الدول رأت في انخفاض الدولار فرصة لتخفيف أعباء ديونها المقومة بالدولار، وتقليل تكلفة الواردات، أو خفض معدلات الفائدة لتحفيز اقتصاداتها. وضرب مثالًا بالبنك المركزي الأوروبي الذي خفّض الفائدة عدة مرات في ظل اقتراب التضخم من مستهدفاته، في وقت بقي فيه اليورو عند مستويات قوية أمام الدولار، حيث وصل إلى 1.15. كما سجل كل من الفرنك السويسري والجنيه الإسترليني مستويات قياسية مقابل الدولار.
ويعتقد سعيد بأن الدولار يفقد تدريجيا مكانته التاريخيه كعملة أولى في العالم بفعل التقلبات الحادة وتراجع الثقة مما يدفع العالم نحو البحث عن بدائل، مشيراً إلى أن نظم المدفوعات الروسية والصينية، والسعي لتطوير العملات الرقميه وعلى رأسها اليوان الرقمي إلى جانب توجه التكتلات الاقتصادية كالبريكس نحو عقد اتفاقيات تجارية بالعملات المحلية كلها مؤشرات على زعزعة هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي.
تجنب خفض قيمة العملة
ويشكل خفض قيمة العملة خطر تأجيج نمو الأسعار، وستكون السلطات النقدية حذرة من بقاء التضخم فوق مستوياتها المستهدفة، بحسب تقرير الشبكة الأميركية، والتي نقلت عن الخبير الاقتصادي الدولي واستراتيجي النقد الأجنبي في ويلز فارغو، بريندان ماكينا، قوله:
- إن خطر ارتفاع التضخم الناجم عن انخفاض قيمة العملة وكذلك التعريفات الجمركية - مع استجابة الدول للرسوم الأميركية - من المرجح أن يجعل البنوك المركزية مترددة في متابعة مسار خفض قيمة العملة طواعية.
- بالإضافة إلى ذلك، في حين أن معظم البنوك المركزية الأجنبية لديها من الناحية النظرية النطاق الترددي لإضعاف عملاتها الخاصة، فإن احتمال حدوث ذلك لا يزال منخفضا في البيئة الحالية.
ويشار إلى أن قدرة أي دولة على خفض قيمة عملتها تتأثر بعدة عوامل: حجم احتياطياتها من النقد الأجنبي، والتعرض للديون الأجنبية، وميزانها التجاري، وحساسيتها للتضخم المستورد.
0 تعليق